Tuesday, June 26, 2007

الآخر


سوف أحاول في هذه التدوينة رصد بعض الظواهر التي تحتوي علي مؤشرات يمكن من خلالها استنتاج القواعد والنظم التي تحكم ما أسميه ب"تعاملنا مع الآخر". و"نحن" هنا تعود علي المصريين بوجه خاص والعرب بوجه عام. طبعا كما يتضح من وصف ما أعتزم القيام به فهو بالضرورة يحتوي علي نسبة من التعميم وبالتالي احتمالات عدم الدقة موجودة ولكني بوجه عام اعتقد او اتمني ان تكون فائدة التحليل اقوي من أضرار التعميم. من ناحية أخري فغني عن التوضيح ان الملاحظات مصدرها تجارب شخصية مباشرة أو غير مباشرة ويجب ان تفهم في هذا النطاق

من حيث المبدأ فإن محددات تعامل الإنسان مع الآخر تبدأ في المراحل الأولي من حياته حين يبدأ التعامل مع الواقع الاجتماعي في صدم وربما تحطيم أو تشويه المعطيات الأساسية للإنسان. وأولي هذه المعطيات وأكثرها ترسخا هي الرغبة الدفينة في إيجاد مكان له في هذا العالم – وبالتالي الاطمئنان بأن حياتنا ليست فاقدة المعني. عادة ما تؤجل الأحداث والظروف وقوع هذا الصدام الذي عادة ما يكون مؤلما لبعض الوقت وذلك لأن وجود الإنسان في محيط أسرته في أعوامه الأولي يعطيه انطباعا بأن رغبته في أن يصير محورا للكون تتحقق وتؤيدها مظاهر للواقع وبالتالي فإن كل شيء يبدو علي ما يرام. مع اتساع نطاق التفاعل والاحتكاك بالعالم الملموس بما في ذلك البشر الآخرين تبدأ محورية الإنسان تتصدع وربما تنهار تدريجيا ويصير البحث عن بديل يعيد للإنسان إحساسه بوجود مكان له في العالم أمرا ملحا. لكن في كل الأحوال تبقي المشكلة ذاتها: ان اعتناق معطيات معينة دون الأخري لا يحميها من خطر الأصدام بالآخر المختلف الرافض لتلك والمعطيات والذي يسعي هو الآخر لإيجاد مكان له في العالم وترسيخ محوريته المزعومة. ولذلك تلجأ الغالبية العظمي مننا إلي استراتيجية تبدو كأنها لا مناص منها ألا وهي اعتناق مجموعة محددة من المعطيات مع تجنب الخوض في تأصيل هذا الاعتناق أو نقده، والنتيجة الحتمية لذلك هي ان يصبح هذا الكيان المركب (الإنسان والمعطيات) رافضا من حيث المبدأ للأفكار التي تتناقض مع معطياته وطاردا لها بصورة عشوائية.

المشكلة في الإطار المذكور أعلاه هي كونه إطارا جامدا بطبعه يرفض الإختلاف وبالتالي يكون نطاق التغيير والتطوير الذي يتنج عنه محدودا.

وإذا كان بعض من القراء يتساءلون عن علاقة ما سبق بموضوع التدوينة (وهو ما أتمناه) فها هي الإجابة: العلاقة هي إنني ادعي ان المحددات الأساسية لتعامل الفرد مع الآخر في ضوء بحثه عن معني لذاته تميل إلي الانتشار علي المستوي الإجتماعي وتصبح من العناصر الأساسية فيما يسمي بالوعي الجماعي.

من هذا المنطلق فالملاحظ لما يسمي بالوعي الجماعي المصري في القرن الماضي يجد ان محاولة إيجاد أسباب للوجود raison d’etre قد تدرجت من مرحلة الإيمان بالقومية المصرية والتحرر والرافضة للآخر المتمثل في الاستعمار البريطاني إلي مرحلة اعتناق القومية العربية الرافضة للآخر المتمثل في اسرائيل وحلفائها الغربيين. بخصوص المرحلة الحالية فإنها تتميز بدرجة ما من التشتت في الوعي الجماعي ما بين اعتناق النموذج الأمريكي الذي تفرضه الطبيعة السياسية للعالم اليوم وبين رفضه من منطلق ان أمريكا هي الرمز والمحور لما يمثل الآخر بالنسبة لنا وبالتالي فإن رفضه يعد تأكيدا لذاتيتنا. ويمكن أيضا رصد هذا التشتت علي المستوي السياسي والقيم الإجتماعية. ومن حيث المبدأ فإنني لا أدعي ان عدم وجود محور ما محدد للنزعات السياسية والاجتماعية في مجتمع ما هو أمر مرفوض ولكن الظاهرة التي تسترعي انتباهي هي وجود أثر عكسي لذلك التشتت علي المستوي الجماعي أدي إلي وجود الكثير من الحالات الفردية التي تعاني من قصور في الرؤية وتغييب للعقل.

ويمكن بطبيعة الحال رصد الدين الإسلامي بسهولة كمحدد رئيسي للقيم في المجتمع المصري اليوم. ولكن هذا التحديد تشوبه العديد من المشاكل منها التشتت السياسي والاجتماعي المشار إليه أعلاه والذي يضع الدين في موضع المحور الأوحد ونقطة الاتفاق الوحيدة وهو ما يعود بالضرر علي الفهم الديني أكثر من النفع لأن ذلك يزيد من حاجة الإنسان الملحة أساسا إلي ادعاء أن فهمه الديني يمثل في عقله منظومة متناسقة مع واقعه الاجتماعي وقناعاته الشخصية وبالتالي فإن الشخص يكون في حاجة إلي اعتبار فهمه وممارسته الدينية هي الصواب المطلق والحقيقة المطلقة التي تترفع عن النقد وترفض أية حقيقة أخري من حيث المبدأ. والخطر في هذا الإدعاء هو أنه في ظل الظروف الاجتماعية والثقافية الراهنة هو ادعاء ناتج عن الاحتياج واليأس لا عن البحث والتعمق. إذا كان الإنسان قد أمضي علي ظهر الأرض ملايين السنين باحثا عن حقيقة واحدة مطلقة بوجه عام، كما أمضي علماء الدين الإسلامي بوجه خاص قرونا من الزمان باحثين ومحللين للتراث الإسلامي، فإن الاطمئنان إلي فهمنا الحالي لما نتعاطاه من تراث ديني كحقيقة مطلقة وسبب للوجود raison d’etre أمر مثير للشفقة في ظل حالة النقص الحاد في مصادر البحث وعوامل تحفيز حرية الرأي والتعبير والإبداع.

إذا كان ما سبق هو رصد وتحليل لجزء من نشاط الإنسان المصري المعاصر في البحث عن محوريته فإنه ليس بأية حال تسليم بحتمية هذا الإطار. بمعني أدق فإنني أدعي وجود إطارا لا يرفض الآخر من حيث المبدأ ولا يعتبر نفسه منزها عن النقد. والدافع للتحول من حالة التمحور حول المعتقدات إلي حالة تقبل نقد المعطيات الأساسية دافعها في حقيقة الأمر هو دافع عملي بحت: حيث انه لا يمكن لي نظريا أن ادعي ان هذا التحول هو أمر مطلق في حد ذاته وإلا ناقضت نفسي، فإنني ادعي ان هذا التحول وإن كان معرض للنقد النظري إلا انه عمليا سوف يعطي مجالا أوسع للتطور والتقدم. من ناحية أخري فإن التحول الذي أدعو إليه تؤيده الحقائق التاريخية. فقد أمضت الإنسانية الغالبية العظمي من وجودها علي الأرض في صراع من أجل إثبات تفوق فكرة علي الآخري من أجل الوصول إلي حتمية تلك الفكرة وبالتالي صحتها. وللتوضيح، فإن الإطار المشار إليه أعلاه لا تختص به الشعوب العربية أو الشعب المصري وإنما تعيشه كافة الشعوب حاليا.

ألم يحن لنا الوقت أن نؤمن بإن هدم معطيات الآخر ليس هو الطريق الوحيد للوصول إلي الحقيقة؟